مدونة "خطبة وخطيب

الاثنين، 4 يونيو 2018

خطبة ليلة القدر وفضائل العشر الأواخر من رمضان قابلة للنسخ واللصق


ليلة القدر وفضائل العشر الأواخر من رمضان

أولاً: العناصر :-


1-     شهر رمضان وفضل العشر الأواخر منه .


2-     اغتنام الأوقات بحسن الطاعات .


3-     ليلة القدر ومكانتها العظيمة وفضلها الكبير .


4-     الختام لشهر الصيام إنما الأعمال بالخواتيم .


ثانياً: الأدلـــــــــة :-


الأدلة من القرآن :

1-    قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة:185] .

2-    وقال تعالى: { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [السجدة:15، 16] .

3-    وقال تعالى:{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ*كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الذاريات:15-18] .

4-    وقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]  .

5-    وقال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت:69]  .

6-    وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة:35] .

7-    وقال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ *  وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ *  لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[ القدر: 1-5] .

8-    وقال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}  [الدخان:3، 4] .

9-    وقال تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *  فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *  وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى *  فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } [الليل:5-10] .

الأدلة من السنة :

1-   عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: ( كان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا دخل العشر أحيا الليل ، وأيقظ أهله ، وجدَّ وشدَّ المئزر ). (متفق عليه.)

2-  وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يجتهدُ في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ ما لا يجتهدُ في غيرِه ) (صحيح مسلم).

3-  وعن الْمُغِيرَةَ بْن شُعْبَةَ قال: قَامَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ يا رسول الله: قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ: ( أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ). (متفق عليه.) ، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: ( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ). (متفق عليه.)

4-  وفي الصحيحين عن عائشة (رضي الله عنها) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ( تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ).

5-  وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه). (متفق عليه).

6-  وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: قلت للنبي (صلى الله عليه وسلم): أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ قال: ( قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني )(رواه الترمذي)

7-  وعن أنس(رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ( إن الله إذا أراد بعبد خيراً استعمله ).فقيل : كيف يستعمله يا رسول الله ؟ قال (يوفقه لعمل صالح قبل موته) (رواه الترمذي.)

ثالثاً: المــوضـــــوع :-

إن الله - سبحانه وتعالى- يمتن على عباده بالنفحات ، بل ويزيد لهم فيها من البركات ، فهذا شهر رمضان ، قال عنه ربنا سبحانه: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة:185] ، وجعل الله في هذا الشهر الكريم العشر الأواخر ، فرصة لمن أحسن في أول الشهر أن يزداد ، ولمن أساء أن يستدرك ما فات ؛ ويغتنم هذه الأيام العشر في الطاعات ، وما يقربه من الله تعالى ، فحينما نتأمل ما كان عليه سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم) في العشر الأواخر ، فإننا نجد أن العبارات والأحاديث التي رويت في هذا الشأن ليس فيها كثير كلام ، وليست من الأحاديث الطويلة مطلقاً ، ولكنها أوصاف أَجملت وأَوجزت صفة القلب ، وحياة الروح ، وشغل العقل ، وفعل البدن ، جاءت في كلمات عجيبة ذكرها أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) فهذه أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشرُ شدَّ مئزرَه ، وأحيَا ليله ، وأيقظَ أهلَه ) (متفق عليه) .

وفي رواية عنها (رضي الله عنها) قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهدُ في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ ما لا يجتهدُ في غيرِه ) (صحيح مسلم) ، ومعنى شد المئزر: أي شمر واجتهد في العبادات ، وقيل: كناية عن اعتزال النساء .

فالنبي (صلى الله عليه وسلم) كان يخصُّ العشر الأواخر من رمضان ، ما لا يخصُّ غيرها ، بأعمالٍ يعملُها ويحرص عليها فمنها: إحياء الليل ؛ وفي المسند من وجهٍ آخرَ عنها قالت: (كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يخلطُ العشرين بصلاةٍ ونومٍ ، فإذا كان العشرُ - تعني الأخيرَ - شمَّرَ وشَدَّ المئزر ) . ويحتمل أن يراد بإحياء الليل إحياء غالبه ؛ وفي صحيح مسلم عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: ) ما علمتُهُ (صلى الله عليه وسلم) قام ليلة حتى الصباح ) .

ولم لا ؟! ودأب المؤمنين الصالحين قيام الليل ، والتهجد والوقوف بين يدي الله سبحانه، هذا ما بينه لنا ربنا جل في علاه ، فقال تعالى : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[السجدة:15، 16] .

وأشار الله تعالى إلى عباده المتقين ، وكيف كان حالهم ، من قيام الليل وهجر للفرش ، قال تعالى: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا من اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:15-18] ، وبهذا استحق هؤلاء المؤمنون جنات وعيون ، كما وعد الحق سبحانه.

وأما عن الهدي النبوي والتطبيق المحمدي لهذا الشأن ؛ فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقوم من الليل حتى تتورم قدماه ، ففي الحديث عن الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ قال: قَامَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ: قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ: ( أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ) (متفق عليه) .

ومن الأعمال التي أشار النبي (صلى الله عليه وسلم) إليها ، وأرشد إلى القيام بها ، وكان يحرص ويواظب على أدائها ، إيقاظ أهله ؛ للعبادة والطاعة ، والتضرع لله سبحانه ، والوقوف بين يدي الحق جل في علاه ، لأن الإنسان مسئول عن أهله ، والراعي مسئول عما استرعاه الله عز وجل ، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [التحريم:6] . فقولها: (أيقظ أهله) فيه إشارة إلى أن الواجب المنوط بكل واحد منا لا يتعلق به وحده ، ولا يقتصر عليه وحده ، بل يشمل الدائرة الأوسع، وأقربها وأولاها الأهل ، فإنّ العبدَ مطالبٌ أن يقي نفسه وأهله من عذاب الله ، وأن يجعل له ولمن هم في رعايته حجاباً وستراً من النار ، إنها الرعاية الواجب فعلها ، والعناية التي ينبغي له القيام بها ، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: ) كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ : وَأَحْسِبُهُ قَالَ : وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ ، أَلا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ) (متفق عليه) .

وروي أن عمر (رضي الله عنه) كان يصلي من الليل ما شاء الله ، حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة ، يقول لهم: الصلاة الصلاة ، ويتلو هذه الآية: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ... الآية } [طه: 132] (الموطأ ).

ولم يقف الأمر عند مجرد إحياء الليل ، وإيقاظ الأهل ، بل تعدى إلى بيان الحالة والهيئة التي ينبغي أن يكون العبد عليها ، من جد واجتهاد ، وهذا ما كان يحرص عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) فكان يجد ويجتهد ، ويشد المئزر – كناية عن اعتزال النساء – إنها المجاهدة للنفس ، والتوجه لله تعالى ، قال سبحانه:  { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] ، ومن جهة أخرى يقال في كلام العرب: شمّر عن ساعد الجدّ أو شمّر عن المئزر ، إذا جَدّ واجتهد وبلغ الغاية القصوى في البذل والعمل .

بل هذا ما أمر الله تعالى به ، من مجاهدة في سبيله ، وأن يبتغى العبد وسيلة تقربه لله سبحانه ، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة:35] ؛ إنه الفلاح والنجاح ، والفوز العظيم ، يناله العبد بالمجاهدة والتوجه إلى الله تعالى .

وإذا كانت العشر الأواخر من رمضان أياماً عظيمة امتن الله بها على الأمة المسلمة ، بأن أعطاها نفحات ربانية عطرة ، فيها الأجر الكبير ، والثواب العظيم ، فيها تتضاعف الحسنات ، ويغفر الله تعالى الذنوب والسيئات ، ويمحو الزلات ؛ فقد جعل الله تبارك وتعالى في العشر الأواخر ليلة القدر ، إكراما من الله لأمة محمد (عليه الصلاة والسلام) حتى تكثر حسناتها ، وترتفع بها درجاتها ، ولا تسبقها الأمم الأخرى ، فليلة القدر التي هي خير من ألف شهر .. هي خلاصة رمضان ، وتاج رمضان ، وكان رسول الله يجاور في العشر الأواخر من رمضان ، ويقول : ) تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ) ( صحيح البخاري ) .

ولهذا كان من سُنةّ النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) التأهب والاستعداد في تلك العشر ، وهذا فيه من الاجتهاد في العبادة ، وبذل الوسع في تحري تلك الليلة الفاضلة – ليلة القدر – التي هي خيرٌ من ألف شهر ، فينقطع تلك المدة عن كل الخلائق ، مشتغلاً بطاعة الخالق، قد حبس نفسه على طاعته ، وشغل لسانه بدعائه وذكره ، وتخلى عن جميع ما يشغله ، وعكف بقلبه على ربه وما يقربه منه ، فما بقي له سوى الله ، وما شغل نفسه إلا بما فيه رضاه ، طلباً لفضله وثوابه وإدراكاً لليلة القدر .

والمقصود الأسمى من الاجتهاد في العشر الأواخر أن يكون العبد مهيئاً لتنزلات الله سبحانه في ليلة القدر ، فإن ليلة القدر ليلة شريفة مباركة معظمة مفضلة ؛ قال الله تعالى فيها: { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}  ، والمعنى: أن العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر .

وليلة القدر في الروايات الشريفة لها قدسية خاصة ، وأهمية كبرى ، فيستحب للمكلف أن يهتم بالغ الأهمية بإحياء هذه الليلة العظيمة ؛ ففي هذه الليلة تقدر مقادير الخلائق على مدار العام ، فيكتب فيها الأحياء والأموات ، والسعداء والأشقياء ، والآجال والأرزاق ، قال تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان:4].

وسميت ليلة القدر بهذا الاسم كما قيل: لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة من خير ومصيبة ، ورزق وبركة ، يروَى ذلك عن ابن عباس (رضي الله عنهما) ؛ وقد قال الله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4]. وقيل: سميت ليلة القدر لعظم قدرها عند الله ، وقيل: القدر بمعنى الضيق ، لضيق الأرض عن الملائكة التي تنزل فيها ، فروى الإمام أحمد عن أبي هريرة (رضي الله عنه) مرفوعاً: ( إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى ) .

وسمَّاها الله تعالى مباركة ، فقال سبحانه: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ }. وهي ليلة القدر بدليل قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}. وقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (185). وعَنْ اِبْن عَبَّاس (رضي الله عنهما) قَالَ: ) أُنْزِلَ الْقُرْآن جُمْلَة وَاحِدَة إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا فِي لَيْلَة الْقَدْر ، ثُمَّ أُنْزِلَ بَعْد ذَلِكَ فِي عِشْرِينَ سَنَة ) وَقَرَأَ: { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ }.

ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه قد أبهم هذه الليلة على الأمة ليجتهدوا في طلبها ، ويجدِّوا في العبادة في الشهر كله طمعاً في إدراكها ، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليكثروا من الدعاء في اليوم كله ، وأخفى اسمه الأعظم في الأسماء ، ورضاه في الطاعات ليجتهدوا في جميعها ، وأخفى الأجل وقيام الساعة ليجد الناس في العمل حذراً منها .

وأما عن العمل في ليلة القدر فينبغي على المسلم الاقتداء بالنبي (صلى الله عليه وسلم) فإنه هو الأسوة والقدوة ، وألا يضيّع ساعات هذه الأيام والليالي ، فإن المرء لا يدري لعله لا يدركها مرة أخرى ، عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) (متفق عليه) .

إن ليلة القدر عند المحبين ليلة الحظوة بأنس مولاهم وقربه ، وإنما يفرون من ليالي البعد والهجر لها ، بقيامها و إحيائها بالتهجد فيها والصلاة ، وقد أمر عائشة بالدعاء فيها ؛ قالت عائشة (رضي الله عنها) للنبي (صلى الله عليه وسلم): أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ قال: ( قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ).

والحاصل أن السعيد حقًا من يوفق إلى إدراك هذه الليلة المباركة ، ومما لا خلاف فيه ولاشك ولا مرية أن من قام رمضان كله فقد أدرك ليلة القدر لا محالة ، ولهذا كان السلف الصالح منهم من يدخل المسجد من أول ليلة من رمضان ولا يخرج إلا بعد صلاة العيد .

إنما الأعمال بالخواتيم: إن الله تعالى بحكمته وعدله إذا علم من عبده صدق القلب وحسن النية فإنه يوفقه لعمل صالح يختم عليه ، ولو عمل ما عمل من شر ، وإذا علم منه فساداً في قلبه فإنه يختم له بسوء خاتمة ، ولو عمل فيما يبدو للناس بعمل أهل الجنة ، بل قد يظهر حقيقة أمره للناس عبرة وموعظة للمؤمنين ، كما في حديث سهل بن سعد في الرجل الذي أبلى بلاء ً حسناً وقاتل المشركين ، ولكن لما في قلبه من فساد لا يعلمه إلا الله فإنه ختم له بخاتمة سوء ، وإنما أخبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) وعلم بحال خاتمته بوحي من الله تعالى تصديقاً لنبيه ، وبرهاناً على أنه رسول رب العالمين،  ولهذا قال الصحابي الذي رآه قتل نفسه : (يا رسول الله صدق الله حديثك ، قد انتحر فلان فقتل نفسه) رواه البخاري .

وإن مما يدل على ذلك ما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } [الليل:5-10] ، وروى البخاري في كتاب التفسير عن علي (رضي الله عنه) قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتانا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة ، فنكس فجعل ينكت بمخصرته ، ثم قال: ( ما منكم من أحدٍ ، وما من نفسٍ منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة أو النار ، وكتبت شقية أو سعيدة ) ، قال رجل : يا رسول الله ، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل ، فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة ، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى عمل أهل الشقاء .! قال: ( أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاء ) ثم قرأ { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى...} الآية .

وعن أنس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ( إن الله إذا أراد بعبد خيراً استعمله ) ، فقيل : كيف يستعمله يا رسول الله ؟ قال ( يوفقه لعمل صالح قبل الموت ) (رواه الترمذي) .

إنَّ الأعمال بالخواتيم ، هكذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : (إنما الأعمال بالخواتيم). ولأجل هذا فإن الحكم على الآخرين إنما يكون بظواهر الأمور وعلى ما يختم عليه العبد ، والخفايا والسرائر إنما يترك علمها للخبير العليم الذي يعلم السر وأخفى .

فمن ختم له بخير فقد أفلح ونجح ، ومن ختم له بشر فقد خاب وخسر ، فعلى كل مسلم أن يخاف من سوء الخاتمة ، وأن يسأل الله - عز وجل - الثبات على الدين حتى الممات ، وعليه أن يحرص على العمل بأسباب الثبات ؛ عسى الله أن يوفقه لذلك .

فاحرصوا على أن تختموا شهركم بطاعة الله تعالى والتقرب إليه بأنواع القربات ، وإحسان الصلة به، وصدق العبد في الرغبة فيما عنده جلَّ في علاه ، فمن كان مقصراً فيما مضى فليحفظ ما بقي من هذا الشهر بالطاعة والإحسان ، ومن كان محسناً فيما مضى فليحرص على سلامة القصد وصحة النية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رأيك يهمنا وتعليقك يسعدنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.